قد عرفت أن طريق التصديق بالنبوة والايمان بها، ينحصر بالمعجز الذي يقيمه النبي شاهدا لدعواه، ولما كانت نبوءات الانبياء السابقين مختصة بأزمانهم وأجيالهم ، كان مقتضى الحكمة أن تكون معاجزهم مقصورة الامد ، ومحدودة ، لانها شواهد على
نبوءات محدودة ، فكان البعض من أهل تلك الازمنة يشاهد تلك المعجزات فتقوم عليه الحجة ، والبعض الاخر تنقل إليه أخبارها من المشاهدين على وجه التواتر ، فتقوم عليه الحجة أيضا .
أما الشريعة الخالدة ، فيجب أن تكون المعجزة التي تشهد بصدقها خالدة أيضا ، لان المعجزة إذا كانت محدودة قصيرة الامد لم يشاهدها البعيد ، وقد تنقطع أخبارها المتواترة ، فلا يمكن لهذا البعيد أن يحصل له العلم بصدق تلك النبوة ، فإذا كلفه الله
بالايمان بها كان من التكليف بالممتنع ، والتكليف بالممتنع مستحيل على الله تعالى ، فلا بد للنبوة الدائمة المستمرة من معجزة دائمة .
وهكذا أنزل الله القرآن معجزة خالدة ليكون برهانا على صدق الرسالة الخالدة ، وليكون حجة على الخلف كما كان حجة على السلف .
وقد نتج لنا عما قدمناه أمران :
الاول : تفوق القرآن على جميع المعجزات التي ثبتت للانبياء السابقين ، وعلى المعجزات الاخرى التي ثبتت لنبينا محمد صلى الله عليه واله وسلم لكون القرآن باقيا خالدا ، وكون إعجازه مستمرا يسمع الاجيال ويحتج على القرون .
الثاني : إن الشرائع السابقة منتهية منقطعة ، والدليل على انتهائها هو انتهاء أمد حجتها وبرهانها ، لانقطاع زمان المعجزة التى شهدت بصدقها ( 1 ) .
ثم ان القرآن يختص بخاصة اخرى ، وبها يتفوق على جميع المعجزات التي جاء بها الانبياء السابقون ، وهذه الخاصة هي تكفله بهداية البشر ( 1 ) ، وسوقهم إلى غاية كمالهم .
فإن القرآن هو المرشد الذي أرشد العرب الجفاة الطغاة ، المعتنقين أقبح العادات والعاكفين على الاصنام ، والمشتغلين - عن تحصيل المعارف وتهذيب النفوس - بالحروب الداخلية ، والمفاخرات الجاهلية فتكونت منهم - في مدة يسيرة - أمة ذات خطر في معارفها ، وذات عظمة في تاريخها ، وذات سمو في عاداتها .
ومن نظر في تاريخ الاسلام وسبر تراجم أصحاب النبي صلى الله عليه واله وسلم المستشهدين بين يديه ، ظهرت له عظمة القرآن في بليغ هدايته ، وكبير أثره ، فإنه هو الذي أخرجهم من حضيض الجاهلية إلى أعلى مراتب العلم والكمال ، وجعلهم يتفانون في سبيل الدين وإحياء الشريعة ، ولا يعبأون بما تركوا من مال وولد وأزواج .
وإن كلمة المقداد لرسول الله صلى الله عليه واله وسلم حين شاور المسلمين في الخروج إلى بدر شاهد عدل على ما قلنا : " يا رسول الله امض لما أمرك الله فنحن معك ، والله لا نقول كما قالت بنو إسرائيل لموسى : إذهب أنت وربك فقاتلا إنا ههنا
قاعدون ، ولكن اذهب أنت وربك فقاتلا إنا معكما مقاتلون ، فو الذي بعثك بالحق لو سرت بنا إلى برك الغماد - يعني مدينة الحبشة - لجالدنا معك من دونه حتى تبلغه . فقال له رسول الله صلى الله عليه واله وسلم خيرا ، ودعا له بخير " ( 2 ) .
( 1 ) انظر قسم التعليقات لمعرفة الحاجة إلى ترجمة القرآن وشروطها برقم ( 5 ) .
( 2 ) تاريخ الطبري غزوة بدر ج 2 ص 140 الطبعة الثاينة . ( * )
[size=16]
- ص 45 -
هذا واحد من المسلمين ، يعرب عن عقيدته وعزمه ، وتفانيه في إحياء الحق ، وإماتة الشرك . وكان الكثير منهم على هذه العقيدة ، متذرعين بالاخلاص .
إن القرآن هو الذي نور قلوب أولئك العاكفين على الاصنام ، المشتغلين بالحروب الداخلية والمفاخرات الجاهلية ، فجعلهم أشداء على الكفار رحماء بينهم . يؤثر أحدهم حياة صاحبه على نفسه ، فحصل للمسلمين بفضل الاسلام من فتوح البلدان في ثمانين سنة ما لم يحصل لغيرهم في ثمانمائة سنة .
ومن قارن بين سيرة أصحاب النبي وسيرة أصحاب الانبياء السابقين علم أن في ذلك سرا إلهيا ، وأن مبدأ هذا السر هو كتاب الله الذي أشرق على النفوس ، وطهر القلوب والارواح بسمو العقيدة ، وثبات المبدأ .
انظر إلى تاريخ الحواريين ، والى تاريخ غيرهم من أصحاب الانبياء تعلم كيف كانوا . كانوا يخذلون أنبياءهم عند الشدائد ، ويسلمونهم عند خشية الهلاك ! ! ولذلك لم يكن لاولئك الانبياء تقدم على طواغيت زمانهم بل كانوا يتسترون عنهم بالكهوف والاودية . وهذه هي الخاصة الثانية التي تفضل القرآن على سائر المعجزات .
وإذ قد عرفت أن القرآن معجزة إلهية ، في بلاغته وأسلوبه فاعلم أن اعجازه لا ينحصر في ذلك ، بل هو معجزة ربانية ، وبرهان صدق على نبوة من انزل إليه من جهات شتى ، فيحسن بنا أن نتعرض إلى جملة منها على نحو الاختصار :
1 - القرآن والمعارف :
[size=21]1 - القرآن والمعارف :
صرح الكتاب في كثير من آياته الكريمة بأن محمدا صلى الله عليه واله وسلم أمي ، وقد جهر النبي بهذه الدعوى بنى ملا من قومه وعشيرته الذين نشأ بين أظهرهم ، وتربى في أوساطهم ، فلم ينكر أحد عليه هذه الدعوى ، وفي ذلك دلالة قطعية على صدقه فيما يدعيه .
ومع أميته فقد أتى في كتابه من المعارف بما أبهر عقول الفلاسفة ، وأدهش مفكري الشرق والغرب منذ ظهور الاسلام إلى هذا اليوم ، وسيبقى
- ص 46 -
موضعا لدهشة المفكرين ، وحيرتهم إلى اليوم الاخير ، وهذا من أعظم نواحي الاعجاز .
ولنتنازل للخصوم عن هذه الدعوى ، ولنفرض أن محمدا صلى الله عليه واله وسلم لم يكن أميا ، ولنتصوره قد تلقن المعارف ، وأخذ الفنون والتاريخ بالتعليم ، أفليس لازم هذا أنه اكتسب معارفه وفنونه من مثقفي عصره الذين نشأ بين أظهرهم ؟
ونحن نرى هؤلاء الذين نشأ محمد صلى الله عليه واله وسلم بينهم ، منهم وثنيون يعتقدون بالاوهام ، ويؤمنون بالخرافات ، وذلك ظاهر . ومنهم كتابيون يأخذون معارفهم وتأريخهم ، وأحكامهم من كتب العهدين التى ينسبونها إلى الوحي ، ويعزونها
إلى الانبياء . وإذ فرضنا أن محمدا صلى الله عليه واله وسلم أخذ تعاليمه من أهل عصره ، أفليس لازم هذا أن ينعكس على أقواله ومعارفه ظلال هذه العقائد التي اكتسبها من معلميه ومرشديه ومن هذه الكتب التي كانت مصدر ثقافته وعلومه ؟
ونحن نرى مخالفة القرآن لكتب العهدين في جميع النواحي ، وتنزيهه لحقائق المعارف عن الموهومات الخرافية التي ملات كتب العهدين وغيرها من مصادر التعلم في ذلك العصر .
وقد تعرض القرآن الكريم لصفات الله جل شأنه في آيات كثيرة ، فوصفه بما يليق بشأنه من صفات الكمال ، ونزهه عن لوازم النقص والحدوث .
وهذه نماذج منها :
" وقالوا اتخذ الله ولدا سبحانه بل له ما في السماوات والارض كل له قانتون 2 : 116 .
بديع السماوات والارض ، وإذا قضى أمرا فإنما يقول له كن فيكون : 117 .
وإلهكم إله واحد لا إله إلا هو الرحمن الرحيم : 163 .
ألله لا إله إلا هو الحي القيوم لا تأخذه سنة ولا نوم له ما في
- ص 47 -
السماوات وما في الارض : 255 .
إن الله لا يخفى عليه شئ في الارض ولا في السماء 3 : 5 .
هو الذي يصوركم في الارحام كيف يشاء لا إله إلا هو العزيز الحكيم : 6 .
ذلكم الله ربكم لا إله إلا هو خالق كل شئ فاعبدوه وهو على كل شئ وكيل 6 : 102 .
لا تدركه الابصار وهو يدرك الابصار وهو اللطيف الخبير : 103 .
قل الله يبدؤا الخلق ثم يعيده فأنى تؤفكون 10 : 34 .
ألله الذي رفع السماوات بغير عمد ترونها ثم استوى على العرش وسخر الشمس والقمر كل يجري لاجل مسمى يدبر الامريفصل الايات لعلكم بلقاء ربكم توقنون 13 : 2 .
وهو الله لا إله إلا هو له الحمد في الاولى والاخرة وله الحكم وإليه ترجعون 28 : 70 .
هو الله الذي لا إله إلا هو عالم الغيب والشهادة هو الرحمن الرحيم 59 : 22 .
هو الله الذي لا إله إلا هو الملك القدوس السلام المؤمن المهيمن العزيز الجبار المتكبر سبحان الله عما يشركون : 23 .
هو الله خالق البارئ
- ص 48 -
المصور له الاسماء الحسنى يسبح له ما في السماوات والارض وهو العزيز الحكيم : 24 " .
هكذا يصف القرآن إلى العالمين ، ويأتي بالمعارف التي تتمشى مع البرهان الصريح ، ويسير مع العقل الصحيح ، وهل يمكن لبشر أمي نشأ في محيط جاهل أن يأتي بمثل هذه المعارف العالية ؟ .
ويتعرض القرآن لذكر الانبياء فيصفهم بكل جميل ينبغي أن يوصفوا به ، وينسب إليهم كل مأثرة كريمة تلازم قداسة النبوة ، ونزاهة السفارة الالهية ،
وإليك نماذج منها :
" الذين يتبعون الرسول النبي الامي الذي يجدونه مكتوبا عندهم في التوارة والانجيل يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث 7 : 157 .
هو الذي بعث في الاميين رسولا منهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين 62 : 2 .
وإن لك لاجرا غير ممنون 68 : 3 .
وإنك لعلى خلق عظيم : 4 .
إن الله اصطفى آدم ونوحا وآل إبراهيم وآل عمران على العالمين 3 : 23 .
وإذ قال إبراهيم لابيه وقومه إنني براء مما
- ص 49 -
تعبدون 43 : 26 .
إلا الذي فطرني فإنه سيهدين : 27 .
وكذلك نري إبراهيم ملكوت السماوات والارض وليكون من الموقنين 6 : 75 .
ووهبنا له إسحق ويعقوب كلا هدينا ونوحا هدينا من قبل ومن ذريته داود وسليمان وأيوب ويوسف وموسى وهرون وكذلك نجزي المحسنين : 84 .
وزكريا ويحيى وعيسى وإلياس كل من الصالحين : 85 .
وإسماعيل واليسع ويونس ولوطا وكلا فضلنا على العالمين : 86 .
ومن آبائهم وذرياتهم وإخوانهم واجتبيناهم وهديناهم إلى صراط مستقيم : 87 .
ولقد آتينا داود ولسليمان علما وقالا الحمد لله الذي فضلنا على كثير من عباده المؤمنين 27 : 15 .
واذكر إسماعيل واليسع وذا الكفل كل من الاخيار 38 : 48 .
أولئك الذين أنعم الله عليهم من النبيين من ذرية آدم وممن حملنا مع نوح ومن ذرية إبراهيم وإسرائيل وممن هدينا واجتبينا إذا تتلى عليهم آيات الرحمن خروا سجدا وبكيا 19 : 58 " . ( البيان - 4 )
- ص 50 -
هذه جملة من الآيات التي جاء بها الكتاب العزيز في تنزيه الانبياء و تقديسهم ، وإظهارهم على حقيقتهم من القداسة والنزاهة وجميل الذكر . أما كتب العهدين فقد تعرضت أيضا لذكر الانبياء ووصفتهم ، ولكن بماذا وصفتهم ؟ !
وبأي منزلة وضيعة انزلت هؤلاء السفرة الابرار ، ولنذكر لذلك أمثلة :
1 - ذكرت التوراة في الاصحاحين الثاني والثالث من سفر التكوين . قصة آدم وحواء وخروجهما من الجنة . وذكرت أن الله أجاز لآدم أن يأكل من جميع الاثمار إلا ثمرة شجرة معرفة الخير والشر . وقال له : " لانك يوم تأكل منها موتا تموت "
ثم خلق الله من آدم زوجته حواء وكانا عاريين في الجنة لانهما لا يدر كان الخير والشر، وجاءت الحية ودلتهما على الشجرة ، وحرضتهما على الاكل من ثمرها وقالت : إنكما لا تموتان بل إن الله عالم أنكما يوم تأكلان منه تنفتح أعينكما وتعرفان الخير
والشر فلما أكلا منها انفتحت أعينهما ، وعرفا أنهما عاريان . فصنعا لانفسهما مئزرا فرأهما الرب وهو يتمشى في الجنة ، فاختبأ آدم وحواء منه فنادى الله آدم أين أنت ؟ فقال آدم : سمعت صوتك فاختبأت لاني عريان . فقال الله : من أعلمك بأنك
عريان ، هل أكلت من الشجرة ؟ ثم إن الله بعد ما ظهر له أكل آدم من الشجرة . قال : هو ذا آدم صار كواحد منا عارف بالخير والشر ، والآن يمديده فيأكل من شجرة الحياة ، ويعيش إلى الابد ، فأخرجه الله من الجنة ، وجعل على شرقيها ما يحرس طريق الشجرة .
وذكر في العدد التاسع من الاصحاح الثاني عشر أن الحية القديمة هو المدعو إبليس، والشيطان الذي يضل العالم كله .
انظر كيف تنسب كتب الوحي إلى قداسة الله أنه كذب على آدم ، وخادعه في أمر الشجرة ، ثم خاف من حياته ، وخشي من معارضته إياه في استقلال مملكته فأخرجه من الجنة ، وأن الله جسم يتمشى في الجنة ، وأنه جاهل بمكان آدم حين اختفى عنه ، وأن الشيطان المضل نصح لآدم، وأخرجه من ظلمة الجهل إلى نور المعرفة، وإدراك الحسن والقبح .
- ص 51 -
2 - وفي الاصحاح الثاني عشر من التكوين : أن " ابراهيم " إدعى أمام " فرعون " أن " سارة " اخته وكتم أنها زوجته ، فأخذها فرعون لجمالها " وصنع إلى ابراهيم خيرا بسببها ، وصار له غنم وبقر وحمير وعبيد وإماء وأتن وجمال " . وحين
علم فرعون أن سارة كانت زوجة إبراهيم وليست اخته قال له : " لماذا لم تخبرني أنها امرأتك ؟ لماذا قلت : هي اختي حتى أخذتها لي لتكون زوجتي " . ثم رد فرعون سارة إلى إبراهيم .
ومغزى هذه القصة أن إبراهيم صار سببا لاخذ فرعون سارة زوجة إبراهيم زوجة له . وحاشا إبراهيم - وهو من أكرم أنبياء الله - أن يرتكب ما لا يرتكبه فرد عادي من الناس .
3 - وفي الاصحاح التاسع عشر من سفر التكوين : قصة " لوط " مع ابنتيه في الجبل ، وأن الكبيرة قالت لاختها : " أبونا قد شاخ وليس في الارض رجل ليدخل علينا . . هامي نسقي أبانا خمرا ، ونضطجع معه فنحيي من أبينا نسلا فسقتا أباهما خمرا
في تلك الليلة " واضطجعت معه الكبيرة . وفي الليلة الثانية سقتاه الخمر أيضا ، ودخلت معه الصغيرة فحملتا منه ، وولدت البكر إبنا وسمته " موآب " وهو أب الموآبيين ، وولدت الصغيرة إبنا فسمته " بزعمي " وهو أبو بني عمون إلى اليوم . هذا ما نسبته التوراة الرائجة إلى لوط نبي الله وإلى ابنتيه ، وليحكم الناظر فيها عقله ، ثم ليقل ما يشاء .
4 - وفي الاصحاح السابع والعشرين من التكوين : أن" إسحق " أراد أن يعطي إبنه " عيسو " بركة النبوة فخادعه " يعقوب " وأو همه أنه عيسو ، وقدم له طعاما وخرما فأكل وشرب ، وبهذه الحيلة والكذب المتكرر توسل إلى أن باركه الله. وقال له اسحق :" كن سيدا لاخوتك ، ويسجد ك بنو أمك ليكن لاعنوك ملعونين ، ومباركوك مباركين " ، ولما جاء عيسو علم أن أخاه
- ص 52 -
يعقوب قد انتهب بركة النبوة . فقال لابيه : " باركني أنا أيضا يا أبي . فقال : جاء أخوك بمكرو أخذ بركتك " . ثم قال عيسو : " أما أبقيت لي بركة " ؟ فقال إسحق : " إني قد جعلته سيدا لك ، ودفعت إليه جميع إخوته عبيدا ، وعضدته بحنطة وخمر . فماذا أصنع اليك يا ابني ؟ ورفع عيسو صوته وبكى " .
أفهل يعقل انتهاب النبوة ؟ وهل يعطي الله نبوته لمخادع كاذب ، ويحرم منها أهلها ؟ وهل أن يعقوب بعمله هذا خادع الله أيضا كما خادع إسحق ولم يقدر الله بعد ذلك على إرجاعها إلى أهلها ؟ ! ! تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا . ولعل سكرة الخمر دعت إلى وضع هذه السخافة ، والى نسبة شرب الخمر إلى إسحق .
5 - وفي الاصحاح الثامن والثلاثين من التكوين : أن " يهوذا " بن يعقوب زنى بزوجة ابنه " عير " المسماة " بثامار " وأنها حبلت منه وولدت له ولدين " فارص " و " زارح " ، وقد ذكر انجيل متى في الاصحاح الاول نسب يسوع المسيح تفصيلا ، وجعل المسيح وسليمان وأباه داود من نسل فارص " هذا الذي ولد من زنا يهوذا بكنته ثامار " .
حاشا أنبياء الله أن يولدوا من الزنى ، كيف وأن تنسب إليهم الولادة من الزنى بذات محرم ! ! ولكن واضع التوراة الرائجة لا يبالي بما يكتب وبما يقول ! ! .
6 - وفي الاصحاحين الحادي والثاني عشر من صموئيل الثاني : أن داود زنى بامرأة " اوريا " المجاهد المؤمن . وحملت من ذلك الزنى ، فخشي داود الفضيحة ، وأراد تمويه الامر على اوريا ، فطلبه وأمره أن يدخل بيته فأبى " اوريا " وقال :
" سيدي - يوآب - وعبيد سيدي نازلون على وجه الصحراء ، وأنا آتي إلى بيتي لآكل وأشرب وأضطجع مع امرأتي، وحياتك وحياة نفسك لا أفعل هذا الامر " فلما يئس داود من التموية أقامه عنده اليوم ، ودعاه فأكل عنده وشرب وأسكره وفي الصباح
كتب داود إلى يوآب : " اجعلوا اوريا في وجه الحرب الشديدة ، وارجعوا من ورائه فيضرب ويموت " وقد فعل يوآب ذلك فقتل اوريا ، وأرسل
- ص 53 -
إلى داود يخبره بذلك ، فضم داود امرأة اوريا إلى بيته وصارت امرأة له بعد انتهاء مناحتها على بعلها . وفي الاصحاح الاول من انجيل متى : أن سليمان بن داود ولد من تلك المرأة .
تأمل كيف تجرأ هذا الوضع على الله ؟ وكيف تصح نسبة هذا الفعل إلى من له أدنى غيرة وحمية فضلا عن نبي من أنبياء الله ؟ وكيف يجتمع هذا مع ما في انجيل لوقا من أن المسيح يجلس على كرسي داود أبيه ؟ ! !
7 - وفي الاصحاح الحادي عشر من الملوك الاول : أي سليمان كانت له سبعمائة زوجة من السيدات ، وثلاثمائة من السراري ، فأمالت النساء قلبه وراء آلهة اخرى " فذهب سليمان وراء عشتورث إلهة الصيدونيين ، وملكوم ، رجس العمونيين ، وعمل سليمان الشر في عيني الرب . . فقال الرب : إني امزق المملكة عنك تمزيقا وأعطيها لعبدك " .
وفي الثالث والعشرين من الملوك الثاني : أن المرتفعات التي بناها سليمان لعشتورث رجاسة الصيدونيين وك " كموش " رجاسة الموآبيين ولملكوم كراهة بني عمون نجسها الملك " يوشيا " وكسر التماثيل وقطع السواري ، وكذلك فعل بجميع آثار
الوثنيين . هب أن النبي لا يلزم أن يكون معصوما - والادلة العقلية قائمة على عصمته - فهل يجوز له في حكم العقل أن يعبد الاصنام ، وأن يبني لها المرتفعات ثم يدعو الناس إلى التوحيد والى عبادة الله ؟ كلا ! ! !
وفي الاصحاح الاول من كتاب " هوشع " : أن " أول ما كلم الرب هوشع . قال الرب لهوشع : اذهب خذلنفسك امرأة زنى ، وأولاد زنى ، لان الارض قد زنت زنى تاركة الرب ، فذهب وأخذ " جومر " بنت دبلايم فحبلت ، وولد له ابنان وبنت " .
وفي الاصحاح الثالث : أن الرب قال له : " إذهب أيضا أحبب امرأة - حبيبة صاحب وزانية - كمحبة الرب لبني إسرائيل " . أهكذا يكون أمر الله ، يأمر نبيه بالزنى وبمحبة امرأة زانية ؟ تعالى عن
- ص 54 -
ذلك علوا كبيرا .
ولا عجب في أن الكاتب لا يدرك قبح ذلك . وإنما العجب من الامم المثقفة ورجال العصر ، ومهرة العلوم الناظرين في التوراة الرائجة ، والمطلعين على ما اشتملت عليه من الخرافات ، كيف تعتقد بأنها وحي إلهي وكتاب سماوي . نعم ان تقليد الآباء كالغريزة الثانوية ، يصعب التنازل عنه إلى اتباع الحق والحقيقة . والله الهادي والموفق .
9 - وفي الاصحاح الثاني عشر من إنجيل متى ، والثالث من مرقس والثامن من لوقا : أن المسيح فيما هو يكلم الجموع " إذا أمه وإخوته قد وقفوا خارجا طالبين أن يكلموه . فقال له واحد : هو ذا أمك وإخوتك واقفون خارجا طالبين أن يكلموك .
فأجاب وقال للقائل له : من هم أمي ومن هم إخوتي ، ثم مد يده نحو تلاميذه وقال : هاأمي وإخوتي ، لان من يصنع مشيئة أبي الذي في السموات هو أخي وأختي وأمي " .
انظر إلى هذا الكلام وتأمل ما فيه من سخافة . ينتهر المسيح امه القديسة البرة ويحرمها رؤيته ، ويعرض بقداستها ، ويفضل تلاميذه عليها وهم الذين قال فيهم المسيح : " إنهم لا إيمان لهم " كما في الرابع من مرقس ، وإنه ليس لهم من الايمان مثل
حبة خردل كما في السابع عشر من متى ، وهم الذين طلب منهم المسيح أن يسهروا معه ليلة هجوم اليهود عليه فلم يفعلوا ، ولما أمسكه اليهود في الظاهر تركه التلاميذ كلهم وهربوا ، كما في الاصحاح السادس والعشرين من إنجيل متى ، إلى ما سوى ذلك من الشنائع التي نسبتها إليهم الاناجيل .
10 - وفي الاصحاح الثاني من يوحنا : أن المسيح حضر مجلس عرس فنفد خمرهم ، فعمل لهم ستة أجران من الخمر بطريق المعجزة . وفي الحادي عشر من متى ، والسابع من لوقا : أن المسيح كان يشرب الخمر ، بل كان شريب خمر " كثير الشرب لها " .
حاشا قدس المسيح من هذا البهتان العظيم . فقد جاء في العاشر اللاويين أن الرب قال ؟ لهرون : " خمرا ومسكرا لا تشرب أنت وبنوك معك عند دخولكم
- ص 55 -
خيمة الاجتماع لكي لا تموتوا ، فرضا دهريا في أجيالكم ، وللتمييز بين المقدس والمحلل ، وبين النجس والطاهر " .
وفي الاول من لوقا في مدح يوحنا المعمدان : " لانه يكون عظيما أمام الرب وخمرا ومسكرا لا يشرب " . إلى غير ذلك مما دل على حرمة شرب الخمر في العهدين .
هذه أمثلة يسيرة في كتب العهدين الرائجة من سخافات وخرافات ، وأضاليل وأباطيل لا تلتئم مع البرهان ، ولا تتمشى مع المنطق الصحيح ، وضعناها أمام القارئ ليمعن النظر فيها ، وليحكم عقله ووجد انه . وهل يمكن أن يحكم أن محمدا - ص -
قد اقتبس معارفه ، وأخذ محتويات قرآنه العظيم من هذه السخافات وهو على ما هو عليه من سمو المعارف ، ورصانة التعليم ؟ وهل يمكن أن تنسب هذه الكتب السخيفة إلى وحي السماء وهي التي لوثت قداسة الانبياء بما ذكرناه وبما لم نذكره ( 1 ) ؟
( 1 ) الهدى إلى دين المصطفى . والرحلة المدرسية لشيخنا البلاغي . وكتابنا الاعجاز ، تجد في هذه الكتب ، الشئ الكثير من نقل هذه الخرافات . ( * )